فصل: قال في البحر المديد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إلاَّ أنَّهُ مَنَعَ من كونها مجرورة المحلأنَّ البدل في نيَّة تكرار العامل، والعامل هو يَسْألُونَكَ والسُّؤالُ تعلق بالاستفهام وهو مُتَعَدٍّ بـ {عَنْ} فتكون الجملة الاستفهامية في محلِّ نصبٍ بعد إسقاط الخافض، كأنَّهُ قيل: يَسْألُونَكَ أيَّان مُرْسَى السَّاعةِ، فهو في الحقيقة بدلٌ من موضع عن السَّاعةِ لأن موضع المجرور نصب، ونظيرهُ في البدل على أحسن الوجوهِ فيه: عَرَفْتُ زيدًا أبُو مَنْ هُو.
و{أيَّانَ} ظرفُ زمانٍ لتضمُّنه معنى الاستفهام، ولا يتصرَّفُ، ويليه المبتدأ والفعل المضارع دون الماضي، بخلاف متى فإنَّها يليها النَّوعان، وأكثرُ ما يكون أيَّان استفهامًا، كقول الشاعر: [الرجز]
إيَّانَ تَقْضِيَ حَاجَتِي أيَّانَا ** أمَا تَرَى لِفعْلِهَا أبَّانَا

وقد تأتي شرطيةً جازمة لفعلين.
قال الشاعرُ: [البسيط]
أيَّانَ نُؤمِنْكَ تأمَنْ غَيْرنَا وإذَا ** لَمْ تُدْرِك الأمْنَ مِنَّا لَمْ تَزَلْ حَذِرًا

وقال آخر: [الطويل]
إذَا النَّعْجَةُ الأذْنَاءُ كَانَتْ بِقَفْرَةٍ ** فأيَّان ما تَعْدِلْ بها الرِّيحُ تَنْزِلِ

والفَصِيحُ فتح همزتها، وهي قراءة العامَّة.
وقرأ السُّلمي بِكسْرِهَا، وهيلغة سُلَيْم.
فصل:
واختلف النحويون في أيَّانَ هل هي بسيطة أم مركبة؟
فذهب بعضهم إلى أنَّ أصلها أي أوانٍ فحذفت الهمزة على غير قياس، ولم يُعَوَّضْ منها شيءٌ، وقُلبت الواوُ ياءً على غير قياسٍ؛ فاجتمع ثلاثُ ياءات فاستُثْقِلَ ذلك فحُذفت إحداهن وبُنيت الكلمةُ على الفتحِ فصارت أيَّانَ.
واختلفوا فيها أيضًا هل هي مشتقةٌ أم لا؟
فذهب أبُو الفتح إلى أنَّها مشتقةٌ من أوَيْتُ إليه؛ لأنَّ البضع آوٍ إلى الكل، والمعنى: أي وقت، وأي فعلٍ؟ ووزنه فَعْلان أو فِعْلان بحسب اللُّغتين ومنع أن يكون ومنه فَعَّالاَ مشتقةً من: أين؛ لأنَّ أيْنَ ظرف مكان، وأيَّان ظرفُ زمانٍ.
ومُرْسَاهَا يجوزُ أن يكون اسم مصدر، وأن يكون اسم زمان.
وقال الزمخشريُّ: مُرْسَاهَا إرساؤُهَا، أو وقت إرسائها: أي: إثباتها وإقرارها.
قال أبو حيَّان: وتقديره: وقت إرسائها ليس بجيدٍ؛ لأنَّ أيَّانَ استفهام عن الزمان فلا يصحُّ أن يكون خبرًا عن الوقت إلاَّ بمجازٍ، لأنه يكون التقدير: في أي وقتٍ وقتُ إرسائها وهو حسنٌ.
ويقال: رَسَا يَرْسُو: أي ثبت، ولا يقال إلاَّ في الشيء الثقيل، نحو: رَسَت السفينةُ تَرْسُوا وأرْسَيْتها، قال تعالى: {والجبال أَرْسَاهَا} [النازعات: 32] ولما كان أثقل الأشياء على الخلق هو الساعة؛ لقوله: {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} لا جرم سمَّى الله وقوعها وثبوتها بالإرساء.
قوله: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} عِلْمُهَا مصدرٌ مضاف للمفعول، والظَّرف خبره أي: أنَّ الله استأثر بعلمها لا يعلمها غيره.
وقوله لا يُجَلِّيها أي لا يكشفها ولا يظهرها.
والتَّجَلّي هو الظهور.
قوله: {فِي السَّمواتِ}.
يجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أن تكون {في} بمعنى على أي: على أهل السموات أو هي ثقيلةٌ على نفس السموات والأرض، لانشقاقِ هذه وزلزال ذي، وهو قولُ الحسنِ.
والثاني: أنَّها على بابها من الظَّرفيَّةِ، والمعنى: حصل ثقلها، وهو شدَّتها، أو المبالغة في إخفائها في هذين الظرفين.
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}.
هذه الجملة التَّشبيهيَّة في محلِّ نصب على الحالِ من مفعول: {يَسْألُونكَ} وفي عَنْهَا وجهان:
أحدهما: أنَّها متعلقة بيَسْألُونَكَ و: {كأنَّكَ حَفِيٌّ} معترض، وصلتها محذوفةٌ تقديره: خَفِيّ بها.
وقال أبُو البقاءِ: في الكلام تَقْدِيمٌ وتأخير، ولا حاجة إلى ذلك، لأنَّ هذه كلَّها متعلقاتٌ للفعل، فإنَّ قوله: {كأنَّكَ حَفِيٌّ} حال كما تقدَّم.
والثاني: أنَّ {عَنَ} بمعنى الباء كما تكون الباءِ بمعنى عن كقوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 259] {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام} [الفرقان: 25]؛ لأن حَفِيَ لا يتعدَّى بعن بل بالباء كقوله: {كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] أو يُضَمَّن معنى شيء يتعدَّى بعن أي كأنك كاشف بحفاوتك عنها.
والحَفِيُّ: المستقصي عن الشَّيء، المهتبلُ به، المعني بأمره؛ قال: [الطويل]
سُؤالَ حَفِيٍّ عَنْ أخِيهِ كأنَّهُ ** بِذكْرتِهِ وسْنَانُ أوْ مُتواسِنُ

وقال آخر: [الطويل]
فَلَمَّا التَقَيْنَا بيَّن السَّيْفُ بَيْنَنَا ** لِسائِلَةٍ عنَّا حَفِيٍّ سُؤالُهَا

وقال الأعشى: [الطويل]
فَإنْ تَسْألِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سائلٍ ** حَفِيٍّ عن الأعْشَى بِهِ حَيْثُ أصْعَدَا

والإحْفَاءُ: الاستقصاء؛ ومنه إحفاء الشَّوارب، والحافي؛ لأنَّهُ حَفِيَتْ قدمُه في استقصاء السَّيْر.
قال الزمخشريُّ: وهذا التركيب يفيدُ المُبالغةَ.
قال أبو عبيدة: وهو من قولهم: تحفى بالمسألةِ أي: استَقْصَى، والمعنى: فإنَّكَ أكثرت السُّؤال عنها وبالغت في طلب علمها، وقيل الحفاوةُ: البرُّ واللُّطْفُ.
قال ابن الأعْرابِي: يقال حفي بي حَفَاوةً وتحفَّى بي تَحَفِّيًا.
والتَّحفي: الكلام واللِّقاء الحسن، قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] أي بارًّا لطيفًا يجيب دعائي.
ومعنى الآية على هذا: يسألونك كأنَّك بارّق بهم لطيف العشرة معهم، قاله الحسنُ وقتادةُ والسُّديُّ ويؤيدُهُ ما روي في تفسيره: إنَّ قريشًا قالوا لمُحمَّدٍ- عليه الصَّلاة والسَّلام-: إنَّ بَيْنَنَا وبينك قرابة فاذكر لنا متى السَّاعة؟ فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} [الأعراف: 187] أي: كأنك صديق لهم بارّ، بمعنى أنك لا تكون حفيًا بهم ما دَامُوا على كفرهم.
وقرأ عبدُ الله حَفِيٌّ بها وهي تَدُلُّ لمن ادَّعَى أنَّ {عَنْ} بمعنى الباء، وحَفِيٌّ فعيل بمعنى: مفعول أي: مَحْفُوٌّ.
وقيل: بمعنى فعل، أي كأنَّ مبالغٌ في السؤال عنها ومتطلع إلى علم مجيئها. اهـ. باختصار.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}.
السائلُ عن الساعةِ رجلان؛ مُنْكِرٌ يتعجَّبُ لفَرْطِ جهله، وعارِفٌ مشتاقٌ يستعجل لِفَرْطِ شوقه، والمتحقق بوجوده ساكِنٌ في حاله؛ فسيان عنده قيام القيامة ودوام السلامة.
ويقال الحق سبحانه استأثر بعلم الساعة؛ فلم يُطلِعْ على وقتها نَبيَّا ولا صفيَّا، فالإيمان بها غيبيٌّ، ويقين أهل التوحيد صادق عن شوائب الرِّيب. ثم مُعَجَّل قيامتهم يُوجِبُ الإيمانَ بمؤجَّلها. اهـ.

.قال في البحر المديد:

الإشارة: إذا أشرق نور اليقين في القلب صارت الأمور المستقبلة حاصلة، والغائبة حاضرة، والآجلة عاجلة، فأهل اليقين الكبير قدّموا ما كان آتيًا، فحاسبوا أنفسهم قبل أن يُحاسبوا، ووزنوا أعمالهم قبل أن تُوزن عليهم، وجازوا الصراط بلسوكهم المنهاج المستقيم، ودخلوا جنة المعارف قبل حصول جنة الزخارف، فالموت في حقهم إنما هو انتقال من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، ومن دار الغرور إلى دار الهناء والسرور. وفي الحِكم: «لو أشرق لك نور اليقين في قلبك، لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها، ولرأيت محاسن الدنيا قد ظهرت كسفة الفَنَاء عليها».
قال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه: نور اليقين تتراءىء به حقائق الأمور على ما هي عليه، فيحق به الحق، ويبط به الباطل، والآخرة حق، والدنيا باطل، فإذا أشرق نور اليقين في قلب العبد أبصر به الآخرة التي كانت غائبة عنه حاضرة لديه، حتى كأنها لم تزل، فكانت أقرب إليه من أن يرتحل إليها، فحق بذلك حقها عنده، وأبصر الدنيا الحاضرة لديه، قد انكسف نورها وأسرع إليها الفناء والذهاب، فغابت عن نظره بعد أن كانت حاضرة، فظهر له بطلانها، حتى كأنها لم تكن، فيوجب له هذا النظر اليقيني الزهادة في الدنيا والتجافي في زهرتها، والإقبال على الآخرة، والتهيؤ لنزول حضرتها، ووجدان العبد لهذا هو علامة انشراح صدره بذلك النور.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ النورَ إذا دَخَلَ القلبَ انشرحَ له الصَّدرُ وانفسَحَ»، وقِيلَ يا رَسُولَ اللهِ: هَل لذلكَ مِن عَلامَةٍ يُعرَفُ بِها؟ قال: «نعَمَ. التَّجَافي عَن دَارِ الغُرُورِ، والإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ، والاستِعدَادُ للمَوتِ قَبل نُزُولهِ» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وعند ذلك تموت شهواته وتذهب دواعي نفسه، فلا تأمره بسوء، ولا تطالبه بارتكاب منهي، ولا تكون لهم همة إلا المسارعة إلى الخيرات، والمبادرة لاغتنام الساعات والأوقات، وذلك لاستشعاره حلول الأجل، وفوات صالح العمل، وإلى هذا الإشارة بحديثي حارثة ومعاذ رضي الله عنهما. رَوى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ استقبله شابٌ من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ أصبحَتَ يا حارثةٌ؟» قال: أصبحت مؤمنًا بالله حقًا، قال: «انظر ما تقول، فإن لكلِّ قَولٍ حقيقة؟» فقال: يا رسولَ الله عَزَفت نَفسِي عن الدنيا فأسهَرْتُ لَيلي وأظمَأتُ نهاري، وكأني بعَرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهلِ الجنّةِ يَتَزَاوَرُون فيها، وكأني أنظرُ إلى أهل النار يتعاوون فيها، فقال: «أبصَرتَ فالزَم، عَبدٌ نور اللهُ الإيمانَ في قلبه..» إلى آخر الحديث.
وروى أنس رضي الله عنه أيضًا: أن معاذَ بن جبل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال له: «كيف أصبحتَ يا معاذ؟» فقال: أصبحتُ بالله مؤمنًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ لكل قول مصداقًا، ولكل حق حقيقة، فما مصداق ما تقول؟» فقال: يا نبيَّ اللهِ، ما أصبحتُ صباحًا قط إلا ظننتُ أني لا أُمسي، ولا أمسَيتُ قط إلا ظننت إني لا أُصبِح، ولا خَطَوتُ خطوةً قط إلا ظننتُ أني لا أُتبِعُها أُخرَى، وكأني أنظرُ إلى كل أمةٍ جاثية تُدعى إلى كتابها، معها نبيُها وأوثَانُها التي كانت تعبدُ من دون اللهِ، وكأني أنظرُ إلى عُقُوبَةِ أهلِ النَّارِ وثوابِ أهلِ الجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَرَفَت فالزَم» انظر بقية كلامه رضي الله عنه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (188):

قوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان علم الغيب ملزومًا لجلب الخير ودفع الضير، وكانت الساعة أدق علم الغيب، أمره بنفي هذا اللازم فينتفي الأعم فينتفي بانتفائه الأخص، وقدم النفع لأنه أهم إلى النفس، وليس في السياق ما يوجب تأخيره بخلاف ما في سورة يونس عليه السلام، فقال آمرًا بإظهار ذل العبودية: {قل لا أملك} أي في وقت من الأوقات أصلًا {لنفسي نفعًا} أي شيئًا من جلب النفع قليلًا ولا كثيرًا {ولا ضرًا} كذلك، فإن قدرتي قاصرة وعلمي قليل، وكل من كان عبدًا كان كذلك.
ولما كان من المعلوم بل المشاهد أن كل حيوان يضر وينفع، أعلم أن ذلك إنما هو بالله فقال: {إلا ما شاء الله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد سواه أن يقدرني عليه.
ولما بين لهم بهذا أن سؤالهم عن الساعة وغيرها من المغيبات جهل منهم، لأن حاله واضح في أنه لا يعلم من ذلك إلا ما علمه الله الذي اختص بعلم الغيب، دل عليه بقوله: {ولو كنت} أي من ذاتي {أعلم الغيب} أي جنسه {لا ستكثرت} أي أوجدت لنفسي كثيرًا {من الخير} باستجلاب المنافع بنصب أسبابها.
ولما كان الضر لا يحتمل منه شيء قال: {وما مسني السوء} أي هذه الجنس بإقامة الموانع له عني لأن لازم إحاطة العلم شمول القدرة كما سيقرر إن شاء الله تعالى في سورة طه، ولما بين أن علم الغيب رتبة الإله، ختم الآيه ببيان رتبته، فقال قالبًا ما أدعوه فيه من الجنون لما بان بقوله: «يا بني عبد مناف! اتقوا الله، يا بني فلان يا بني فلان» وكذا ما لزم عن إلزامهم له بعلم الساعة من أنه يكون إلهًا: {إن أنا إلا} ولما كانت السورة للإنذار، قدمه فقال: {نذير} أي مطلقًا للكافر ليرجع عن كفره، والمؤمن ليثبت على إيمانه {وبشير لقوم يؤمنون} أي خاصة، أو الصفتان لهم خاصة بالنظر إلى النفع، وأما ما لا نفع فيه فعدم. اهـ.